في عالم اليوم لم تعد القوة العسكرية هي المعيار الرئيسي لقوة الدولة وإنما أضحت قوة الأمم وقدرات الدول تقاس بمقدار ما تمتلكه من ثروات معرفية وخبرات تكنولوجية وصناعية. وبالتالي تحول الصراع بين الدول إلي صراع من أجل المعرفة وباتت معامل البحث والتطوير العلمي والمصانع إلي جانب الأسرار الاقتصادية والابتكارات الحديثة أهدافا رئيسية لعمليات التجسس وذلك في ظل التنافس المحموم بين الدول وبين الشركات بشأن المنتجات والأسواق الجديدة.
يحدث هذا بالتزامن مع المواجهات المحتدمة بين دول العالم بشأن العملات والصراع علي المواد الخام. مما حدا بالبعض إلي وصف ما يجري بأنه حرب اقتصادية ولكنها ذات طبيعة مختلفة إذ لن تكون مسألة قنابل وصواريخ وإنما حرب شبكات وتجسس صناعي واقتصادي. ومن بين أحدث القضايا المثارة في هذا الصدد قضية التجسس داخل شركة رينو للسيارات - المملوكة جزئياً من قبل الحكومة الفرنسية والتي أعلنت أنها سقطت ضحية قضية بالغة التعقيد للتجسس الصناعي حيث قالت الشركة إنها قلقة من اختراق برنامجها المهم لانتاج سيارة كهربائية والذي تستثمر فيها 4 مليارات يورو. وتحوم الشبهات حول شركات صينية وهو ما نفته بكين بشدة.
قديماً وحديثاً
والتجسس الصناعي ليس بالشيء الجديد. فقديماً مارسه الصناع والتجار في عهد الفراعنة لجمع معلومات عن منافسيهم. كما حاولت الصين الحفاظ علي أسرار صناعة البورسلين لديها ولكنها اكتشفت بواسطة أحد الفرنسيين وهكذا انتقلت إلي أوربا.
وشهدت تسعينيات القرن العشرين بداية العصر الذهبي للتجسس الصناعي وكان في مقدمة الدول الأكثر ممارسة للتجسس الولايات المتحدة التي زكرت جل اهتمامها بعد الحرب الباردة علي التجسس الصناعي. وفرنسا التي اتهمت مراراً بالتجسس بما في ذلك مزاعم بزرع أجهزة تصنت في مقاعد رجال الأعمال علي متن طائرات إير فرانس في السبعينيات والثمانينيات. والصين التي ركزت أنشطتها التجسسية علي جمهوريات الاتحاد السوفيتي إلي جانب الولايات المتحدة. أما اليابان فقد وجهت 80% من أنشطة مخابراتها نحو التجسس الصناعي لكونها أصلاً هدفاً لهده العمليات. بينما مارست إسرائيل عمليات تجسس واسعة النطاق داخل الولايات المتحدة.
ميزانيات وخسائر طائلة
واليوم تنفق الدول والشركات مبالغ مالية ضخمة كل عام في محاولة لاكتشاف أسرارالمنافسين- الذين يسعون بدورهم إلي حمايتها- سواء بصورة نزيهة أو قذرة. إلا أنه لا يمكن بأي حال معرفة التكلفة الإجمالية الاقتصادية للتجسس حيث أن ميزانيات وكالات المخابرات المنوط بها ممارسة التجسس الاقتصادي. دائماً ما تكون سرية. ومع ذلك فمن المعروف أن وكالة المخابرات الصينية توظف أكثر من مليون شخص من أجل حماية البلاد من الأنشطة التجسسية وفي نفس الوقت التجسس علي الدول الآخري. وبالتالي من الصعب معرفة الأضرار الاقتصادية الناجمة عن فقدان المعلومات لكن مكتب التحقيقات الفيدرالي علي سبيل المثال يقدر قيمة أضرار التجسس الاقتصادي التي لحقت بالولايات المتحدة بنحو 100 مليار دولار سنويا. وفي ألمانيا قدرت وزارة الداخلية هذه الأضرار بنحو 20 مليار يورو. وفي النمسا تتكبد الشركات خسائر سنوية ينحو 880 مليون يورو بسبب عمليات التجسس علي أسرارها الصناعية.
الطامة الكبري
ويعتمد التجسس الصناعي في الغالب علي شركات خاصة تضم عملاء مخابرات سابقين. وتسخدم هذه الشركات المعدات والأساليب التي كانت بضع سنوات فقط حكراً علي وكالات المخابرات. وتتراوح أساليب التجسس ما بين رشوة أو ابتزاز الموظفين الذين يشغلون مناصب مهمة وتسجيل المحادثات الهاتفية ووضع أجهزة تصنت داخل مكاتب الموظفين وغرف الاجتماعات إلي جانب اختراق أجهزة الكمبيوتر بهدف الحصول علي معلومات معينة وكذلك التشويش علي الإشارات الالكترونية الصادرة عن أجهزة الكمبيوتر. وفي حالة وقوع الضرر لشركة ما. لن يكون ممكناً تعويضها عن هذه الأضرار وحتي إذا تم التعويض عن الأضرار المادية فمن العسير تعويض الشركة عن الضرر الذي يلحق بسمعتها علي المدي الطويل. ولكن ربما لا تقع الأضرار للشركة بسبب الجواسيس وإنما بسبب الموظفين المهملين أو المتذمرين أو الجشعين الذين يسعون وراء الربح السريح ويبيعون أسرار الشركة لمن يدفع أكثر وهنا تكون الطامة الكبري.
وفي بعض الأحيان يقدم الجواسيس خدمات لدول وحكومات أجنبية وخاصة إذا كانت التقنيات الحديثة التي تطورها من قبل شركات مدنية لها تطبيقات عسكرية.
التأثير الأكبر
الحقيقة أن التجسس الصناعي يؤثر علي جميع دول العالم ولكن تأثيره الأكبر يقع علي عاتق الدول الصناعية. ومن المرجح أن تزداد وتيرة التجسس الصناعي مع تقدم القوي الصاعدة.
ويتزامن ذلك في ظل احتدام المنافسة بين الاقتصادات الصاعدة والمتقدمة بشأن العملات وفي ظل ارتفاع أسعار الغذاء الي مستويات قياسية وارتفاع سعر البترول و تنامي الطلب علي الموارد الطبيعية. وخاصة بعد دخول متنافسين جدد مثل الصين وروسيا والهند وماليزيا والبرازيل إلي حلبة الصراع علي المواد الخام وخاصة داخل قارة أفريفيا.
سباق محموم
وفي نفس الوقت أعلنت بكين أيضا تقليص حصص تصدير معادنها النادرة المهمة في كثير من الصناعات التكنولوجية والالكترونية مما أشعل شرارة سباق عالمي بحثا عن مصادر جديدة. وتنتج الصين نحو 97% من بعض أكثر العناصر ندرة في العالم وقد دفع خفض الصادرات أسهم المنتجين في أماكن أخري الي الارتفاع بحدة.
وفي ظل هذه الأجواء يتوقع صندوق ¢إيمرجنت لإدارة الأصول¢ أن تؤدي تصاعد التوترات في نهاية المطاف إلي حرب.
[center]